--------------------------------------------------------------------------------
- المجنون «1»
981* هو قيس بن معاذ، ويقال قيس بن الملوّح. أحد بنى جعدة بن كعب ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة، ويقال بل هو من بنى عقيل بن كعب بن ربيعة.
ولقبه المجنون لذهاب عقله بشدّة عشقه.
982* وكان الأصمعىّ يقول: لم يكن مجنونا، ولكن كان فيه لوثة كلوثة أبى حيّة «2» .
983* وهو من أشعر الناس، على أنّهم قد نحلوه شعرا كثيرا رقيقا يشبه شعره، كقول أبى صخر الهذلىّ:
أما والّذى أبكى وأضحك والّذى ... أمات وأحيا والّذى أمره الأمر «3»
لقد تركتنى أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما النّفر
فيا هجر ليلى قد بلغت بى المدى ... وزدت على ما لم يكن بلغ الهجر
ويا حبّها زدنى جوى كلّ ليلة ... ويا سلوة الأيّام موعدك الحشر «4»
وصلتك حتّى قلت لا يعر القلى ... وزرتك حتى قلت ليس له صبر «5»
إذا ذكرت يرتاح قلبى لذكرها ... كما انتقض العصفور بلّله القطر
عجبت لسعى الدّهر بينى وبينها ... فلمّا انقضى ما بيننا سكن الدّهر
* وكقول أبى بكر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة «1» :
بينما نحن من بلاكث بالقا ... ع سراعا والعيس تهوى هويّا «2»
خطرت خطرة على القلب من ذك ... راك وهنا فما استطعت مضيّا «3»
قلت: لبّيك. إذ دعانى لك الشّو ... ق، وللحاديين: كرّا المطيّا «4»
985* وكان المجنون وليلى صاحبته يرعيان البهم وهما صبيّان، فعلقها علاقة الصّبا، وفى ذلك يقول:
تعلّقت ليلى وهى غرّ صغيرة ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صبيّان نرعى البهم يا ليت أنّنا ... إلى اليوم لم نكبر ولم يكبر البهم «5»
ثم نشأ وكان يجلس معها ويتحدّث فى ناس من قومه، وكان جميلا ظريفا راوية للأشعار حلو الحديث، فكانت تعرض عنه وتقبل على غيره بالحديث، حتّى شقّ ذلك عليه، وعرفته منه، فأقبلت عليه فقالت:
كلانا مظهر للناس بغضا ... وكلّ عند صاحبه مكين
ثم تمادى به الأمر، حتّى ذهب عقله، وهام مع الوحش، فكان لا يلبس ثوبا إلا خرّقه، ولا يعقل شيئا إلا أن تذكر له ليلى، فإذا ذكرت ثاب وتحدّث عنها لا يسقط حرفا.
فسعى عليهم نوفل بن مساحق، فنزل مجمعا من تلك المجامع، فرآه عريانا يلعب بالتراب، فكساه ثوبا، فقال له قائل: وهل تدرى من هذا أصلحك الله؟ قال: لا، قال: هذا المجنون (قيس بن الملوّح) ، ما يلبس الثياب ولا يريدها، فدعا به فكلّمه، فجعل يجيبه عن غير ما يكلّمه به، فقالوا له: إن أردت أن يكلّمك كلاما صحيحا فاذكر له ليلى وسله عن حبّه لها، ففعل فأقبل عليه المجنون يحدّثه بحديثها وينشده شعره فيها، فقال له نوفل: الحبّ صيّرك إلى ما أرى؟ قال: نعم، وسينتهى بى إلى أشدّ مما ترى، قال أتحبّ أن أزوّجكها؟
قال: نعم وهل إلى ذلك من سبيل! قال: انطلق معى حتى أقدم بك عليها فأخطبها لك وأرغّب لك فى المهر، قال: أفتراك فاعلا؟ قال: نعم، قال:
انظر ما تقول! قال: علىّ أن أفعل بك ذلك، فارتحل معه، ودعا له بثياب فلبسها المجنون، وراح معه كأصحّ أصحابه، يحدّثه وينشده، فبلغ ذلك قومها فتلقّوه بالسلاح، وقالوا له: والله يا بن مساحق، لا يدخل المجنون منزلنا أبدا أو نموت، وقد هدر السلطان دمه، فأقبل بهم وأدبر، فأبوا، فلمّا رأى ذلك قال للمجنون: انصرف، قال المجنون: والله ما وفيت بالعهد، قال: انصرافك أيسر علىّ من سفك الدماء، فانصرف.
986* وفى ذلك يقول:
يا صاحبيّ ألّما بى بمنزلة ... قد مرّ حين عليها أيّما حين
فى كلّ منزلة ديوان معرفة ... لم يبق باقية ذكر الدّواوين «1»
إنى أرى رجعات الحبّ تقتلنى ... وكان فى بدئها ما كان يكفينى
ألقى من اليأس تارات فتقتلنى ... وللرّجاء بشاشات فتحيينى
987* وفى رجوع عقله عند ذكرها يقول: «1»
يا ويح من أمسى تخلّس عقله ... فأصبح مذهوبا به كلّ مذهب «2»
خليعا من الإخوان إلا معذّرا ... يضاحكنى من كان يهوى تجنّبى
إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت ... روائع عقلى من هوى متشعّب
وقالوا: صحيح ما به طيف جنّة ... ولا لمم إلا افتراء التّكذب «3»
988* وخرج رجل من بنى مرّة إلى ناحية الشام والحجاز، ممّا يلى تيماء والسّراة بأرض نجد، فى بغية له، فإذا هو بخيمة قد رفعت له (عظيمة) وقد أصابه المطر، فعدل إليها، فتنحنح، فإذا امرأة قد كلّمته فقالت: انزل، قال:
فنزلت، وراحت إبلهم وغنمهم، فإذا أمر عظيم كثرة ورعاة، فقالت: سلوا هذا الرجل «4» من أين أقبل؟ فقلت: من ناحية تهامة ونجد، فقالت: يا عبد الله، أىّ بلاد نجد وطئت؟ فقلت: كلّها، قالت: بمن نزلت هناك؟ فقلت:
ببنى عامر، فتنفّست الصّعداء، ثم قالت: بأى بنى عامر؟ فقلت: ببنى الحريش، فاستعبرت، ثم قالت: هل سمعت بذكر فتى منهم يقال له قيس يلقّب بالمجنون؟
قلت: إى والله، نزلت بأبيه وأتيته ونظرت إليه، قالت: فما حاله؟ قلت يهيم فى
تلك الفيافى ويكون مع الوحش لا يعقل ولا يفهم، إلا أن يذكر له ليلى فيبكى وينشد أشعارا يقولها فيها، قال: فرفعت الستر بينى وبينها، فإذا شقّة قمر لم تر عينى مثلها قطّ، فبكت وانتحبت، حتى ظننت- والله- أن قلبها قد انصدع، فقلت: أيّتها المرأة، أما تتّقين الله؟ فو الله ما قلت بأسا! فمكثت طويلا على تلك الحال من البكاء والنحيب، ثم قالت:
ألا ليت شعرى والخطوب كثيرة ... متى رحل قيس مستقلّ فراجع
بنفسى من لا يستقلّ برحله ... ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع
ثم بكت حتى غشى عليها، فلما أفاقت قلت: ومن أنت يا أمة الله؟
قالت: أنا ليلى المشؤومة عليه غير المؤاسية له! فما رأيت «1» مثل حزنها عليه وجزعها، ولا مثل وجدها.
989* وكان أبو المجنون ورهطه أتوا أبا ليلى وأهلها، وسألوهم بالرّحم، وعطفوا عليهم «2» ، وأخبروهم بما ابتلى به، فأبى أبو ليلى، وحلف ألا يزوّجها إيّاه أبدا، فقال الناس لأبى المجنون: لو خرجت به إلى مكة فعاذ بالبيت ودعا الله رجونا أن ينساها أو يعافيه الله مما بتلى به، فحجّ، فبينما هو يمشى بمنى وأبوه معه قد أخذ بيده يريد الجمار، نادى مناد من تلك الخيام: يا ليلى! فخرّ مغشيّا عليه، واجتمع عليه الناس وضجّوا ونضحوا عليه من الماء، وأبوه يبكى عند رأسه، ثم أفاق وهو مصفرّ لونه متغيّر حاله، فأنشأ يقول:
وداع دعا إذا نحن بالخيف من منى ... فهيّج أحزان الفؤاد وما يدرى «3»
دعا باسم ليلى غيرها فكأنّما ... أطار بليلى طائرا كان فى صدرى
* حكى الهيثم (بمن عدىّ) عن أبى مسكين «1» قال: خرج منّا فتى حتى إذا كان ببئر ميمون، إذا جماعة على جبل من تلك الجبال، وإذا بينهم فتى قد تعلّقوا به، مديد القامة طوال أبيض، جعد الشعر أعين، أحسن من رأيت من الرجال، وإذا هو مصفرّ مهزول شاحب اللون، قال: فسألت عنه؟
فقالوا: هذا قيس الذى يقال له المجنون «2» ، خرج به أبوه الملوّح حين ابتلى بما ابتلى به إلى الحرم مستجيرا بالبيت، لعلّ الله أن يفرّج عنه، ومن رأيه أن يستجير بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما يصنع هاهنا وما لكم تمسكونه؟ قالوا: لما يصنع بنفسه، فإنّه يصنع بها صنيعا يرحمه منه عدوّه، ويقول: أخرجونى أتنسّم صبا نجد، فنخرجه إلى هاهنا، فيستقبل بلاد نجد عسى أن تهبّ له الصّبا، ونكره أن نخلّى سبيله فيرمى بنفسه من الجبل، فلو شئت دنوت منه فأعلمته أنّك قدمت من نجد فيسألك عنها وعن بلاده فتخبره، فقلت: أفعل، فقالوا: يا أبا المهدى! هذا رجل قدم من (بلاد) نجد، فتنفّس تنفّسا ظننت أنّ كبده قد انصدعت، ثم جعل يسألنى عن واد واد وموضع موضع، وأنا أصف (ذلك) له، وهو يبكى أحرّ بكاء وأوجعه للقلب، ثم قال:
ألا ليت شعرى عن عوارضتى قنى ... لطول اللّيالى هل تغيّرتا بعدى «3»
ومن علويّات الرّياح إذا جرت ... بريح الخزامى هل تهبّ على نجد
وعن أقحوان الرّمل ما هو فاعل ... إذا هو أسرى ليلة بثرى جعد
وهل تنفضنّ الرّيح أفنان لمتّى ... على لاحق الرّجلين مندلق الوخد «1»
وهل أسمعنّ الدّهر أصوات هجمة ... تطالع من وهد خصيب إلى وهد «2»
وفى وجهه هذا يقول:
دعا المحرمون الله يستغفرونه ... بمكّة ليلا أن تمحّى ذنوبها
وناديت: يا ربّاه أوّل سالتى ... لنفسى لليلى، ثمّ أنت حسيبها «3»
فإن أعط ليلى فى حياتى لا يتب ... إلى الله عبد توبة لا أتوبها
991* وخرج شيخ من بنى مرّة إلى أرض بنى عامر ليلقى المجنون، قال:
فدللت على خيمة فأتيتها، فإذا أبوه شيخ كبير وإخوة له رجال، وإذا نعم ظاهرة وخير كثير، فسألتهم عن المجنون؟ فاستعبروا جميعا وبكوا، وقال الشيخ:
والله لهو كان آثر هؤلاء عندى، وإنّه عشق امرأة من قومه، والله ما كانت تطمع فى مثله، فلما أن فشا أمره وأمرها كره أبوها أن يزوّجه إيّاها بعد ظهور الخبر، فزوجها من رجل آخر، فجنّ ابنى وجدا عليها وصبابة بها، فحبسناه وقيّدناه، فكان يعضّ لسانه وشفتيه، حتى خشينا أن يقطعهما، فلما رأينا ذلك خلينا سبيله، فهو فى هذه الفيافى مع الوحش، يذهب فى كلّ يوم بطعامه فيوضع له حيث يراه، فإذا تنحّوا عنه جاء فأكل، وإذا أخلقت ثيابه أتوه بثياب فيلقونها
حيث يراها، ويتنحّون عنه، فإذا رأها أتاها فألقى ما عليه ثم لبسها.
قال: فسألتهم أن يدلّونى عليه لآتيه؟ فدلّونى على فتى من الحىّ، وقالوا:
لم يزل صديقه، وليس يأنس بأحد إلا به، فهو يأخذ أشعاره فيأتينا بها، فأتيته فسألته أن يدلّنى على ما أحتال به للدنوّ منه، فقال: إن كنت تريد شعره فكلّ شعر قاله إلى أمس فهو عندى، وأنا أذهب غدا، فإن كان قال شيئا أتيتك به، قال: فقلت له: لا، بل تدلّنى عليه فآتيه، فقال: إن نفر منك تخوّفت أن ينفر منى فيذهب شعره! قال: فأبيت إلا أن يدلّنى عليه، فقال: نعم، اطلبه فى هذه الصحارى، فإذا رأيته فادن منه مستأنسا، ولا تظهر النّفار منه، فإنّه يتهدّدك ويتوعّدك، وبالحرى أن يرميك بشىء إن كان بيده «1» ، واجلس كأنّك لا تنظر إليه، والحظه ببصرك، فإذا رأيته قد سكن أو عبث بيده فأنشده شعرا «2» إن كنت تروى لقيس بن ذريح شيئا، فإنّه يعجب به.
قال: فخرجت أدور يومى، فما رأيته إلا بعد العصر جالسا على قوز من رمل «3» ، قد خطّ بإصبعه فيه خطوط، فدنوت منه غير منقبض منه، فنفر والله منى كما تنفر الوحش إذا نظرت إلى الإنس، وإلى جانبه أحجار ململة، فتناول واحدا منها، فأقبلت حتّى جلست إليه، ومكث ساعة وكأنّه الشىء النافر المتهيّىء للقيام، فلما طال جلوسى سكن وأقبل يعبث بأصابعه، فنظرت إليه، فقلت:
أحسن والله قيس بن ذريح حيث يقول:
وإنّى لمفن دمع عينىّ بالبكا ... حذار الّذى لمّا يكن وهو كائن
وقالوا: غدا أو بعد ذاك بليلة ... فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيّتى ... بكفّىّ إلا أنّ من حان حائن «1»
فبكى طويلا، ثم قال: أنا والله أشعر منه حيث أقول:
وأدنيتنى حتّى إذا ما سبيتنى ... بقول يحلّ العصم سهل الأباطح «2»
تجافيت عنّى حين لا لى حيلة ... وخلّيت ما خلّيت بين الجوانح
ثم عنّت له ظباء فوثب فى طلبها، فانصرفت، ثم عدت من الغد فلم أصبه، فرجعت فأخبرتهم، فوجّهوا الذى كان يذهب بطعامه، فأخبرهم أنّه على حاله لم يأكل منه شيئا، ثم عدت اليوم الثالث فلم أصبه، ونظرت إلى طعامه فإذا هو على حاله، ثم غدوت بعد ذلك وغدا إخوته وأهل بيته، فطلبناه يومنا وليلتنا، فما أصبناه، فلمّا أصبحنا أشرفنا على واد كثير الحجارة، فإذا هو ميّت بينها، فاحتملوه ودفنوه.
992* وللمجنون عقب بنجد. ولم يقل أحد من الشعراء فى معنى قوله:
وأدنيتنى حتّى إذا ما سبيتنى
شيئا هو أحسن منه.
ونحوه قول ابن الأحنف:
أشكو الّذين أذاقونى محبّتهم ... حتّى إذا أيقظونى بالهوى رقدوا
993* ومن (جيّد) شعره، ويقال إنه منحول:
إنّ الّتى زعمت فؤادك ملّها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لّها
فإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الضّمير إلى الفؤاد فسلّها «3»
بيضاء باكرها النّعيم فصاغها ... بلباقة فأدقّها وأجلّها
(إنّى لأكتم فى الحشا من حبّها ... وجدا لو اصبح فوقها لأظلّها «1»
ويبيت تحت جوانحى حبّ لها ... لو كان تحت فراشها لأقلّها)
ضنّت بنائلها فقلت لصاحبى ... ما كان أكثرها لنا وأقلّها
ومن شعره الجيّد قوله «2» :
وخبّرتمانى أنّ تيماء منزل ... لليلى إذا ما الضيّف ألقى المراسيا
فهذى شهور الصيّف أمست قد انقضت ... فما للنّوى ترمى بليلى المراميا
ولو كان واش باليمامة داره ... ودارى بأعلى حضرموت اهتدى ليا
إذا ما جلسنا مجلسا نستلذّه ... تواصوا بنا حتّى أملّ مكانيا «3»
وماذا لهم، لا أكثر الله حظّهم، ... من الحظّ فى تصريم ليلى حباليا
وفيها يقول:
وإنّى لأستغشى وما بى نعسة ... لعلّ خيالا منك يلقى خياليا
وأخرج من بين الجلوس لعلّنى ... أحدّث عنك النّفس فى السّرّ خاليا
هذا مثل قول ذى الرّمّة:
أحبّ المكان القفر من أجل أنّنى ... به أتغنّى باسمها غير معجم «1»
995* وممّا نحل:
يا حبّذا عمل الشّيطان من عمل ... إن كان من عمل الشّيطان حبّيها