أ/2
وفي الجمع بين الإيمان والتقوى في مبدأ الآية وخِتامِها ما يُشعِرُ بأن المقصودَ بالصوم ما جمعَ بين منازِع الإيمان من الفضائل والتكمُّلات الذاتية والروحية، وبين دوافِع التقوى من كمال المُراقبة لله تعالى، والخوفِ منه، والتعلُّق به وحدَه، والزُّهد فيما سِواه.
وبذلك يجمعُ الصائمُ بين مظهر الصوم السلبيِّ من الكفِّ عن شهوَتَي البطن والفَرْج، وبين حقيقته الإيجابية من السَّير على الفضائل، وانتِهاج أقوَم المناهِج، وأهدَى السُّبُل، فلا يصخَب، ولا يكذِب، ولا يُمارِي، ولا يُسابُّ أحدًا أو يُشاتِمُه، وذلك ما وجَّه إليه رسولُ الهُدى - صلوات الله وسلامُه عليه - بقوله: «الصيامُ جُنَّة؛ فإذا كان صومُ يوم أحدِكم فلا يرفُث ولا يصخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتلَه فليقُل: إني صائم .. الحديث»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وبقولِه - عليه الصلاة والسلام -: «من لم يدَعْ قولَ الزُّور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدَعَ طعامَه وشرابَه»؛ أخرجه البخاري في "صحيحه" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وبقوله - عليه الصلاة والسلام -: «رُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامِه الجوعُ والعطشُ، ورُبَّ قائمٍ حظُّه من قيامِه السهرُ»؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وابن ماجه، والدارمي في "سننهما" بإسنادٍ صحيحٍ.
وسرُّ هذا - كما قال الحافظُ ابن رجب - رحمه الله -: "أن التقرُّب إلى الله تعالى بترك المُباحات لا يكمُلُ ولا يتمُّ إلا بعد التقرُّب إليه بترك المُحرَّمات في كل حالٍ، من الكذب، والظلم، والعدوان على الناس في مالِهم وأموالِهم وأعراضِهم؛ فمن ارتكبَ المُحرَّمات ثم تقرَّب بترك المُباحات كان بمثابة من يترُكُ الفرائِضَ ويتقرَّبُ بالنوافِل. وإن كان صومُه مُجزِئًا عن الجمهور بحيث لا يُؤمرُ بإعادته.
ولذا كان الصومُ الذي أتى به الصائمُ على وفق ما أمرَ الله وما جاء به رسولُه سببًا ينالُ به الصائمُ الجزاءَ الضافِي الذي وعدَ الله به المُحسِنين، كما جاء في "الصحيحين" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كلُّ عملِ ابن آدم له، الحسنةُ بعشر أمثالِها إلى سبعمائة ضِعف. قال الله - عز وجل -: إلا الصيام وأنا أجزِي به، إنه تركَ شهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجلي، للصائِم فرحَتان: فرحةٌ عند فِطره، وفرحةٌ عند لِقاءِ ربِّه، ولَخلُوفُ فمِ الصائمِ أطيَبُ عند الله من رِيح المِسك».
واختِصاصُ الله تعالى بالصيام - يا عباد الله -؛ لأنه كما قال أهلُ العلم بالحديث: مُجرَّد ترك حُظوظ النفس وشهواتها الأصليَّة التي جُبِلَت على المَيل إليها لله - عز وجل -، فإذا اشتدَّ توَقَان النفس إلى ما تشتَهِيه مع قُدرتها عليه، ثم تركَتْه لله - عز وجل - في موضعٍ لا يطَّلِعُ عليه إلا الله كان ذلك دليلاً على صحة الإيمان.
فإن الصائم يعلمُ أن له ربًّا يطَّلعُ عليه في خلوتِه، وقد حرَّم عليه أن يتناولَ شهواته المجبُول على المَيل إليها في الخَلوة، فأطاعَ ربَّه وامتثلَ أمرَه، واجتنَبَ نهيَه؛ خوفًا من عقابٍِه، ورغبةً في ثوابِه، فشكرَ الله تعالى له ذلك واختصَّ لنفسِه عملَه من بين سائرِ أعمالِه". اهـ.
ومن أهداف الصوم أيضًا - يا عباد الله -: أخذُ النفوس باليُسر، وترويضُها على السماحة، والنَّأْيُ بها عن العنَت والمشقَّة، وهو طابعُ الإسلام الذي اتَّسَم به وافترقَ به عن غيرِه.
وقد تجلَّت مظاهرُ اليُسر في الصوم في الأمر بتعجِيلِ الفِطر بمُجرَّد غروب الشمس، وتأخير السَّحور وامتِداد وقتِه إلى أذان الفجر الصادق.
وفي التجاوُز عمَّن أكلَ أو شرِبَ ناسيًا لصومِه، فلا قضاء عليه ولا كفَّارة، وفي الترخيصِ للمريض والمُسافِر في الفِطر رفعًا للحرَج عنهما، ودفعًا للعنَت.
وفي إباحة الفِطر للحائض والنُّفساء مع القضاء، وفي الترخيص للحامل والمُرضِع في الفِطر مع القضاء، وفي الترخيص للرجل الكبير والمرأة الكبيرة، والمريض الذي لا يُرجَى بُرؤُه في ترك الصوم لتعذُّره في حقِّهم، والاكتِفاء بالإطعام عن كل يومٍ مسكينًا.
إلى غير ذلك من مظاهر اليُسر الكثيرة المُتجلِّيَة في الصوم وغيرِه من العبادات مما تأتلِفُ فيه مصالِحُ الدين، وتتفقُ معه مطالِبُ الدنيا، بعيدًا عن رهبانيَّة المُترهِّبين، ونزَعات المادِّيين، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 185].
نفعني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافَّة المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.