الخطبة الأولى:
ما أسرع مرور الأيام وما أشدّ تعاقب الليل والنهار وما أجرأ الليالي على هدم أعمارنا وانتقاص آجالنا، بالأمس القريب ودعنا شهر رمضان الذي مضى وكأنّه حلم جميل ما أتى إلاّ وقد آذن بالإنصرام.. ثم مضى بعده موسم الحج وكأنّه طيف خيال أو عابر سبيل مرّ مرور الكرام وانصرف.
واليوم نحن في وداع عام كامل من أعمارنا وفي استقبال عام جديد.. سنة كاملة من عمر الإنسان قد تهيأت للرحيل.. ماذا أدينا فيها من أعمال؟!
وماذا قدّمنا من طاعات؟ وماذا اكتسبنا فيها من أجور وحسنا؟
كم آية من القرآن قرأنا؟
وكم درهم أو دينار أنفقنا وتصدقنا؟
وكم من الأيام صمنا؟
وكم من المعروف بذلنا؟
كم يتيم مسحنا دمعته؟
كم بائسِ فقير سددنا خلّته وقضينا حاجته؟
وكم مجاهد دعونا له ونصرناه؟
وكم آمر بالمعروف ناه عن المنكر شددنا أزره وباركنا خطاه؟
كم معصية ركبنا؟
وكم من ضعيف ظلمنا؟
وكم من فقير أو مسكين أو يتيم أهملنا؟
وكم من الساعات والأيام غفلنا؟
سنة كاملة أودع الله فيها في صحائف الحسنات ما شاء الله أن يودع.. وسوّد فيها في صحائف السيئات ما شاء الله أن يسوّد : (وجدوا ما عملوا حاضرا(
ولئن كنا قد نسينا ما فعلنا من الحسنات والسيئات.. فإنّ ذلك محفوظ في كتاب قد أحصاه الملكان.. وسطره الكرام الكاتبون.. قال تعالى: {ما يلفظ من قول إلّا لديه رقيب عتيد} أي ما يتكلم ابن آدم بكلمة إلاّ ولها من يرقبها معدّ لذلك يكتبها ولا يترك كلمة ولا حركة كما قال تعالى: {وإنّ عليكم لحافظين (10) كراما كاتبين (11) يعلمون ما تفعلون} ، وفي يوم القيامة يرى كلّ إنسان عمله ماثلا أمام عينيه فيعتريه الخوف والهلع وينجّي الله تعالى أهل الإيمان برحمته بعد أن أطاعوه واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم وعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته ويهلك الكافرين بسبب أعمالهم الخبيثة وأفعالهم الفظيعة كما قال تعالى : {وترى كلّ أمّة جاثية كلّ أمّة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون (28) هذا كتابنا ينطق عليكم بالحقّ إنّا كنّا نستنسخ ما كنتم تعملون (29) فأمّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فيدخلهم ربّهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين (30) وأمّا الّذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين ،وفي هذا اليوم يقف العصاة مذهولين مبهورين ويقولون: {يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربّك أحدا}
بادر قبل أن يبادر بك
فيا عباد الله! هل أعددتم لهذا اليوم عدّته؟ وهل سعيتم فيما ينجيكم من هوله وكربته؟
وهل حاسبتم أنفسكم على ما بدر منكم من أقوال وأعمال؟
وهل اجتهدتم في طاعة مولاكم ذي الجلال والإكرام؟
أم أنّكم في غفلتكم سادرون .. وفي طريق الغيّ سائرون؟
أفق أخي قبل أن يحين موعدك فتقول: {ربّ ارجعون (99) لعلّي أعمل صالحا فيما تركت} فيقال لك
كلّا إنّها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون )
وانظر أخي إلى الصالحين.. كيف كانوا يعملون؟ كيف كانوا يقولون؟ كيف كانوا يفعلون؟ واحكم على نفسك من خلالهم.. وقل لنفسك : هل عملك ينجيك غدا من عذاب السعير؟ أم أنّك من الذين أساءوا العمل وأخطئوا المسير؟ أم من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا؟ واجه نفسك بهذه الحقيقة ولا تعتمد على رجاء كاذب أو أمانٍ باطلة..
واعلم بأنّ الصالحين قبلك مع ما كانوا عليه من عبادة وطاعة وإحسان عمل كانوا لا يثقون بأعمالهم ويخافون من الردّ وعدم القبول..
فهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين الذين رفع الله ذكره.. وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. وبشّره بالمنزلة العظيمة والمقام الرفيع الذي لا أعظم منه ولا أرفع يوم القيامة.
كان يقوم من الليل حتى تتفطّر قدماه فلما قيل له: تفعل ذلك وقد غفر لك ربك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: «أفلا أكون عبدا شكورا؟». وكان صلى الله عليه وسلم يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم الواحد أكثر من مائة مرة..
وهل كان صلى الله عليه وسلم يعصي ربه حتى يستغفره ويتوب إليه في اليوم مائة مرة؟
كلا والله ما كان إلاّ طائعا ولكنها المحاسبة الدائمة للنفس والمراقبة التامة لخطرها والتواضع الجم باستغفاره والتوبة إليه وعدم الركون إلى مقام النبوة الرفيع.. قال صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحد الجنة بعمله». قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟! قال: «ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل .
فيا أخي الحبيب! إذا كان هذا حال سيد المرسلون فكيف يكون حالي وحالك؟ كيف نفرح ولا ندري ما مصيرنا؟ وكيف نسهوا ولا ندري ما مآلنا؟ وكيف نمزح ولا ندري أمن أهل الجنة نحن أم من أهل النار؟ قال تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبّة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} وقال تعالى: {يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذّركم اللّه نفسه واللّه رءوف بالعباد}
وقال تعالى: {يوم يبعثهم اللّه جميعا فينبّئهم بما عملوا أحصاه اللّه ونسوه واللّه على كلّ شيء شهيد}
فيحكم الله بين عباده ويحاسبهم على أعمالهم جميعا ولا يترك من ذلك شيئا ولو كان صغيرا ولا يظلم أحدا من خلقه بل يعفو ويصفح ويغفر ويرحم ويعذّب من يشاء بقدرته وحمته وعدله ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي ثم ينجي أصحاب المعاصي من المؤمنين فيخرجهم من النار بعد أن يعذّبوا فيها ما شاء الله ويخلّد فيها الكافرين وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم..
ثم لتسألنّ يومئذ عن النعيم
ولعظيم يوم الجزاء أمر الله عباده بمحاسبة أنفسهم والاستعداد لما أمامهم حتى لا يفاجئهم الموت وهم على حالهم من الغفلة والإهمال فقال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتّقوا اللّه إنّ اللّه خبير بما تعملون}
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم".
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا فإنّه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية".
فالمؤمن يحاسب نفسه لأنّه يعلم أنّه سوف يحاسب غدا بين يدي الله عز وجل والعاصي يمضي قدما لا يحاسب نفسه لأنّه غافل عن يوم الحساب قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلاّ سيكلمه ربّه عز وجلّ ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدّم وينظر أشأم منه فلا يرى إلاّ ما قدّم وينظر بين يديه فلا يرى إلاّ النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة» [متفق عليه].
وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنّنا سوف نسأل عن نعيم الدنيا فقال تعالى: {ثمّ لتسألنّ يومئذ عن النّعيم} سوف يسألنا الله عز وجل عن نعيم الدنيا عن الماء البارد والطعام الشهي والمسكن والمركب والملبس ماذا عملنا فيه؟ وكيف وصلنا إليه؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبدٍ حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه وعن علمه ما فعل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه»
قال قتادة: "إنّ الله سائل كلّ عبد عما استودعه من نعمه وحقه".
وقال ابن القيم رحمه الله: "والنعيم المسئول عن نوعان: نوع أخذ من حلّه وصرف في حقّه فيسال عن شكره ونوع أخذ بغير حلّه وصرف في غير حقّه فيسأل عن مستخرجه ومصرفه".
فيا أخي المسلم: أعد للسؤال جوابا وللجواب صدقا وصوابا فإنّ الأمر جدّ خطير لأنّه متعلق بالمآل والمصير إمّا نعيم مقيم وإمّا عذاب أليم.
الخطبة الثانية :
أخي في الله حاسب نفسك قبل أن تحاسب، قال الإمام ابن القيم رحمه الله في طريقة محاسبة النفس: "وجماع ذلك أن يحاسب نفسه أولاً عن الفرائض فإن تذكّر فيها نقصا تداركه إما بقضاء أو إصلاح.
ثم يحاسبها عن المناهي فإذا عرف أنّه ارتكب منها شيئا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية.
ثم يحاسب نفسه على الغفلة فإن كان قد غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى.
ثم يحاسبها بما تُكلّم به أو مشت إليه رجلاه أو بطشت يداه أو سمعته أذناه: ماذا أردت بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى أيّ وجه فعلته؟
أخي المسلم : ليست محاسبة النفس مقتصرة على نهاية العام أو نهاية الشهر أو نهاية اليوم فإنّ الصالحين كانوا يحاسبون أنفسهم عند كلّ عمل من الأعمال أو قول من الأقوال قال الحسن رحمه الله: "رحم الله عبداً وقف عن همّه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخّر ، وقال الحسن أيضا في قوله تعالى: {ولا أقسم بالنّفس اللّوّامة} "لا تلقى المؤمن إلاّ يعاتب نفسه: ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والعاجز يمضي قدما لا يعاتب نفسه".
وقال ميمون بن مهران:" لا يكون الرجل تقيّا حتى يكون لنفسه أشدّ محاسبة من الشريك لشريكه".
وقال إبراهيم التيمي:مثّلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها. ثم مثّلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي: أي نفسي!! أي شيءٍ تريدين؟ قالت: أريد أن أُرَدُّ إلى الدنيا فأعمل صالحا. قلت: فأنت في الأمنية فاعملي".
وكذلك أنت أخي المسلم لازالت الفرصة أمامك فاغتنمها ولا تضيعها فإنّ كثيرا غيرك قد حرموا تلك الفرصة ووسّدوا القبور وجندلوا في صفائحها فاشكر الله على تلك المهلة وتب إليه ممّا مضى وأحسن العمل فيما بقي فإنّ الأعمال بالخواتيم والتوبة تمحو ما كان قبلها من الذنوب فخذ نفسك بالجدّ ودع عنك الكسل والفتور فقد ذكر محمد بن المنذر أنّ تميما الداري رضي الله عنه نام ليلة لم يقم يتهجد فيها حتى أصبح فعاقب نفسه بقيام سنة كاملة للذي صنع.
ففي غزوة مؤتة حينما أصيب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه دعا الناس: "يا عبدا لله بن رواحه! يا عبدا لله بن رواحه!" وكان في جانب العسكر ومعه ضلع جمل ينهشه ولم يكن ذاق طعاما قبل ذلك بثلاث فحينما سمع النداء رمى بالضلع ثم قال: "وأنت مع الدنيا!! ثم تقدم فقاتل" فأصيب أصبعه فارتكز فجعل يقول:
هل أنت إلاّ إصبع دميت وفي سبيل الله ألقيت
يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد لقيت إن تفعلي فعلهما هديت
وإن تأخرت فقد شقيت
ثم قال: "يا نفس! إلى أيّ شيء تتوقين؟ إلى فلانة؟ هي طالق ثلاثا. وإلى فلان وفلان؟ غلمان له وإلى معجف حائط له فهو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم".
ثم يقول:
يا نفس مالك تكرهين الجنة أقسم بالله لتنزلنه
طائعة أو لتكرهنّه فطالما قد كنت مطمئنة
هل أنت إلاّ نطفة في شنة قد أجلب الناس وشدوا الرنه
ثم قاتل حتى قتل رضي الله عنه.