المذكرة للتذكرة...
احتل موضوع مذكرة يزعم أن عدداً من الإسلاميين من أجيال مختلفة، تواضعوا على ما ورد فيها من أفكار وربما وقّعوا عليها، احتل حيزاً كبيراً من النقاشات في مجالس المدينة ومنتدياتها العفوية أو الجلسات شبه الرسمية، لمعرفة ما وراء أكمتها، والأفكار الرئيسة المؤسسة لما ورد فيها، ومبررات صدورها والقوس التي صدرت منها..
وبرغم التحفُّظات الكثيرة والانتقادات لأداء الحركة الإسلامية ودورها، وانسحابها من الساحة العامة برفق، تاركة المجال في العمل السياسي، إلا أن ما ورد في المذكرة رغم لغتها المتصالحة ونقدها الخجول وضعفها في التوصيف الدقيق وعدم تقديم حلول عملية تخاطب الأزمة بكلياتها وتفصيلاتها، يعتبر في حد ذاته تطوراً مهماً في التدافع السياسي والفكري، الذي يمكن أن تنتج منه آفاق أخرى لو أُحسِن التعاملُ مع هذه المذكرة كظاهرة تكررت للمرة الثانية ولن تكون الأخيرة في عهد الإنقاذ التي يقودها الإسلاميون.
ومن الواجب والضروري، النظر لمضمون ما ورد، وليس لظاهر الحالة بالتفكير عن مَن هم الذين أعدُّوا هذه المذكرة وأخرجوا للعلن الانتقادات الداخلية التي لا تخلوا عنها مجالس الإخوان ولقاءاتهم ومؤيدي الحكومة على مختلف المستويات، فلا يخلو مجلس أومناسبة أو لقاء اجتماعي أو سياسي ولا حوار عابر عبر الهاتف بين مؤيدي الحكومة والإنقاذ، من ملاحظات ونقد صريح يتقارب مع ما جاء في المذكرة التي نشرت وتناقلها الناس.
فليس هناك جديد في المذكرة وهي لا تحتوي على أمر خطير دبِّر بليل، فكثير من المقالات الصحفية التي تنشر كل يوم في الصحف اليومية، أكثر جرأة منها وأحدُّ نصلاً..
لا يوجد فيها ما يُغضِب، وفيها ما يزيل بعض العطب، رغم عدم اكتمال رؤيتها وتصوراتها للحل وعدم ملامستها بعض الجوانب المعقدة في تجربة الإنقاذ بصراحة وجدية كاملتين.
المشكلة معروفة لجميع عضوية الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني ولا يوجد من لا يعرف التشخيص الحقيقي لأوضاع البلاد وأزماتها وكيفية تجاوزها، فالأصوات المكتومة خرجت لدائرة الضوء فلا يفيد أبداً التغاضي عن هذه المذكرة حتى وإن كانت مجهولة النسب حتى الآن ولم تظهر ممهورة بأسماء من أعدوها ووافقوا عليها.
بن كيران.. كلُّنا في الهم..
رئيس الحكومة المغربية السيد عبد الإله بن كيران رئيس حزب التنمية والعدالة الذي فاز حزبه فوزاً كاسحاً في الانتخابات النيابية الأخيرة، زار السفارة السودانية بالمغرب، وشارك في احتفالاتها بعيد الاستقلال المجيد في بادرة ليست من العرف السياسي المألوف في المغرب وفي كثير من دول العالم، فمن النادر جداً أن يذهب رئيس حكومة في أي دولة من دول العالم للمشاركة في احتفالات سفارة لدى بلده، والسائد أن يوفد وزيراً ليمثل رأس الدولة أو الحكومة في مثل هذه المناسبات.
لكن رئيس الوزراء المغربي الجديد، يكنُّ وداً عميقاً للسودان ويعرف مكانة السودانيين ودورهم في الفضاءين العربي والإفريقي، والوشائج التي تربط البلدين وأهمية تنمية علاقات الإخاء والتنسيق السياسي وصولاً لتطلعات الشعبين الشقيقين وروابطهما التاريخية، ولا يخفى على كثير من الناس أنه فوق علاقة الدين والعروبة وتجليات ثقافتها، ارتبط السودان بالمغرب من قرون طويلة فهجرات السودانيين خاصة القبائل العربية في نسخة الهجرة من حدود السودان الغربية والشمالية الغربية كانت من المغرب كبلد عبور بعد سقوط الأندلس، هاجرت هذه القبائل خاصة عرب غرب السودان من المغرب عبر الجزائر وتونس حتى دخلت حدود السودان الحالية وأجزاء واسعة من تشاد وإفريقيا جنوب الصحراء...
ثم توالت الهجرات لأوساط السودان خلال عهد السلطنة الزرقاء وفي العهد التركي وتشكل عشائر المغاربة في وسط وشمال السودان ركيزة أساسية من المجتمع السوداني ودون الناس الكتاب القيِّم جداً للدكتور الفاتح علي حسنين عن المغاربة وأصولهم في السودان وأنسابهم وأحسابهم.
ثم أخيراً..الشعور والإحساس العميق لدى رئيس الحكومة المغربية، بقوة التوجه الواحد الذي عمّ الوطن العربي في ربيعه الظافر، والتجربة السودانية التي لا يُغفل عنها في رصيد تجارب الحركات الإسلامية في الحكم سواء لها أم عليها، وينبع التوجه الذي يحكم الآن في المغرب وفي السودان ودول الربيع العربي من مشكاة واحدة هي التي ستنير الطريق للشعوب العربية والمسلمة... وليس من عجب في ذكرى المشكاة أن شعار حزب بن كيران كان المصباح في الانتخابات المغربية.. ويذكر هنا أن قيادة وزارة الخارجية «الوزير مولانا علي كرتي» تلعب الآن أدواراً جيدة لا بدّ من الإشادة بها مع دول المغرب العربي وكانت للوزير ـ حسب علمنا ـ اتصالات ومشاورات مع الحكومة المغربية برئاسة بن كيران ومع وزير الخارجية الحالي.
حسين خوجلي أصابع من نار...
قبل أن يتلاشى صدى تقديم الأستاذ الكبير حسين خوجلي للأستاذ علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية في افتتاح مجمع أمدرمان الثقافي، وقبل أن تجفَّ كلماته المضيئات سواء كانت نقداً لطيفاً أو حاداً مثل العوسج الجاف، وإشراقات عباراته ووده القوي الشفيف لإخوانه ولطائفه معهم، يتلقى حسين خبر إغلاق صحيفته «ألوان» ومصادرة ممتلكاتها وتعليق صدورها، ربما للمرة الخامسة خلال عشر سنوات خلون، دخل فيها السجن مرات ودفع ثمناً باهظاً من سنوات عمره وتجربته وعلاقاته واستثماراته وماله... ويمثل حسين عصفور النار في المشهد الصحفي والإعلامي، لا تنظر إليه السلطة إلا نظرة الريبة والشك وهي تتحسس مسدسها وحدَّ مديتها الحادة لتقصَّ رقبة صحيفته كل مرة... وحسين نفسه لاهٍ عن كل ذلك، ترك حتى الكتابات الناقدة الجادة القوية كما هي عادته، سنوات كثيرة وقد لاذ بكتابات تلغرافية قصيرة ومعابثات ومشاغلات وتعليقات الطريفي زول نصيحة، وهو سيد العارفين بالمدى الذي يمكن أن تعطيه كتاباته المتماسكة والساخنة جداً ومدى تأثيرها، لأن كتاباته مع آخرين في النصف الثاني من الثمانينيات هي التي عرّت الديمقراطية الثالثة وأباطيل أحزابها ومهدت لمجيء الإنقاذ لأنها شكّلت الرأي العام آنئذ وحددت اتجاهاته، ومن ينكر ذلك فهو مكابر ولا يعلم من السياسة شيئاً.
نشعر بألم ومضاضة وغصّة في حلوقنا، لأن 90% من رؤساء التحرير في صحفنا الصادرة كل صباح وكبار الصحفيين بل عدد كبير من الوزراء والمسؤولين، عبَروا خلال بوابة «ألوان» وعملوا مع حسين خوجلي منذ بزوغها الأول في 1984م...
لماذا يعامل حسين بهذه القسوة كل مرة ويُتنكر له ولا يُناصح!، وعشرات الأقلام الصدئة تكتب كل يوم وصحف اليسار العميل وكتابه يملأون الصحف والأرزقية والدجالون والكذابون من معارضي النظام ومنافقيه يسرحون ويمرحون وترضى عنهم السلطة... هذا ظلم فادح لحسين، كان يمكن أن تبذل له النصائح ويكون قريباً من إخوانه في السلطة ويعامل معاملة أكرم وأليق به وتجربته وقدراته ومكانته... نحن لا نتعاطف معه فقط بمشاعر فيّاضة ووفاء له، لكننا ننظر لواقع الحرية الصحفية وصورة البلد الذي كلما خرج من أزمة أرجعه التقدير الخاطئ لهاوية ما لها من قرار... ستظل أصابع حسين محترقة باستمرار من لسعات جمر السلطة وتلك ضريبة لابد أن تدفع لقلم مثله.
يتوارى الكبار في صمت..
بهدوء كما ينسرب النور البهي، رحل أمس الأول عن هذه الفانية، أحد أعلام شمال دارفور من رموز الحركة الإسلامية التاريخيين، الأستاذ أحمد محمدين الكنزي، وهو من جيل العمالقة من رواد الدعوة والحركة في دارفور منذ خمسينيات القرن الماضي «المرحوم سليمان مصطفى أبكر، أمبرو، الأستاذ جبريل عبد الله، أحمد عبد الكبير كاكوم، المرحوم آدم عبد الله أحمد، قاضي مليط، المرحوم عوض الله دفع الله، عبد الله أحمد بدين، مالك عبد القادر أب سم، محمد جبر الدار، المرحوم حمزة أبو اليمن، المرحوم إبراهيم عبد القادر» كان المغفور له ـ بإذن الله ـ من الرعيل الأول الذي أرسى دعائم الحركة الإسلامية وكان منزله في مليط قبلة للإسلاميين وملاذاً لهم في سنوات العسرة وصعابها، ويعرفه قيادات الحركة الإسلامية التي كانت تزوره في مليط والفاشر وهو معلم قديم، نعاه لي ولإخوانه وأهله الأخ آدم جماع آدم المدير العام للحج والعمرة وهم من الجيل الذي جاء بعد الفقيد، وفي أيامه الأخيرة تناساه الناس، مات في صمت وكأنه رحل ولم يسمع به أحد، ودعواتنا له بالمغفرة والرحمة وأن يجعل الله من الجنة مثواه..«إنا لله وإنا إليه راجعون».