قرأنا قبل أيام تصريحاً لما يسمّى باللجان الثورية تخيلوا: «اللجان الثورية» حية تُرزق في السودان حتى بعد أن قُبر ملكُها العريان وفرعونها الذميم «القذافي» وذهب إلى مزبلة التاريخ لتحكي عنه صفحاتُه أنه أحد أكبر الطغاة في التاريخ البشري... لكن رغم ذلك لا يزال بعضُ الناس في بلاد الإباحية السياسية والعجائب والغرائب يملك الجرأة ليتحدَّث عن مشروعه المجنون وعن كتابه الأخضر الذي دِيس بالأقدام في ليبيا الحُرة.
في شارع الغابة وأنا أمرُّ بجوار مبنى شركة زين قرأت لافتة مكتوب عليها «حركة اللجان الثورية» تشير إلى مقر حزب القذافي فضحكتُ ملء شدقيّ وتساءلت: هل يحدث هذا في غير السودان؟!
في صحيفة «آخر لحظة» قرأتُ خبراً عن توعُّد المعارضة للحكومة بالويل والثبور ولا ضير في ذلك فما تقترفه الحكومة من آثام يجعلها تستحق أكثر من ذلك لكن التصريح تضمّن حديثاً لأمين سر حزب البعث العربي الاشتراكي ــ ومع صورته كمان ــ يقول فيه إنهم سيستمرون في تعبئة الجماهير «لانتزاع الحرية والديمقراطية» وقال إن «المعارضة فقدت الأمل في أن يحقِّق النظام الحالي تحوُّلاً ديمقراطياً حقيقياً أو يخضع لإرادة الشعب في التداول السلمي داعياً المواطنين للنضال بكافة الوسائل السلمية للإمساك بزمام الأمور لتقويض نظام الوصاية والتسلُّط»!!
بالله عليكم هل من مهزلة وهل من قلة حياء أكبر من ذلك؟!
صدِّقوني إن كثيراً مما يقوله الرجل صحيح لكن أما كان الأجدر بأمين حزب البعث أن يذهب ـ وأقسم بالله إنني مستعد لدفع كلفة السفر ـ أن يذهب إلى دمشق ليُقنع قيادته في تلك الدولة بما يطالب به من حرية وتداول سلمي للسلطة وتحوُّل ديمقراطي حقيقي؟! أليس الأولى أن يحاول وقف المذابح التي يتعرض لها الشعب السوري من قِبل قيادة حزب البعث في سوريا قبل أن يطالب جماهير الشعب السوداني بالثورة؟!
ترى ماذا كان سيحدث للرجل لو قال حديثه هذا أمام شبيحة النظام البعثي في دمشق وتحدَّث عن الوصاية والتسلُّط؟!
يُحكى عن الرئيس اللبناني شارل الحلو أنه جمع الصحافيين اللبنانيين في بيروت قبل اندلاع الحرب الأهلية في منتصف سبعينات القرن الماضي وقال لهم في مستهل مؤتمره الصحافي: «مرحباً بكم في وطنكم الثاني لبنان»!!
وكان الرجل صادقاً فقد كان لبنان عشية الحرب الأهلية التي ضربته مسرحاً للتدخلات الأجنبية وكانت الصحف موزعة بين الدول صاحبة المصالح في الشأن اللبناني فكان أن قال عبارته الساخرة باعتبار أن كلاً منهم يخدم مصالح الدولة التي تنتمي إليها صحيفتُه أكثر من خدمته مصلحة لبنان!!
ناطق باسم اللجان الثورية التابعة للقذافي لا يزال يتحدَّث عن الشأن العام في السودان وأمين سر حزب البعث الحاكم في سوريا والذي يذيق شعبها من صنوف القهر ما لم يشهد التاريخ له مثيلاً إلا في الأنظمة الشبيهة يتحدَّث عن التحوُّل الديمقراطي وانتزاع الحرية في السودان!!
صحيح أن الاختشوا ماتوا!! هل تعلمون يا دكتور عمار معتمد شرق النيل أن هناك لافتة ضخمة في حلة كوكو تحمل اسم «شارع الزعيم الأممي معمر القذافي»؟!
بالله عليكم هل يجوز أن يُتاح لأمثال هؤلاء أن يمارسوا العمل السياسي؟!
ألم تحل الثورة المصرية والثورة الليبية والثورة التونسية أحزاب مبارك وبن علي والقذافي بالرغم من أن تلك الثورات لم تنشأ إلا من أجل توفير الحريات التي نراها اليوم تظلِّل سماوات تلك الدول؟!
حدِّثوني عن مقعد برلماني واحد ناله حزب البعث في تاريخ الممارسة السياسية في السودان سواء في الانتخابات البرلمانية أو حتى في الجامعات؟!
ماذا فعل حزب البعث «العربي» للدفاع عن العروبة والعربية عندما كانت الحركة الشعبية والحركات العنصرية تستهدفها وتعمل للقضاء عليها؟! ألم يكن متحالفاً مع الحركة الشعبية التي يعلم يقيناً أن هدفها الأول هو «إنهاء النموذج العربي الإسلامي» في السودان الشمالي؟!
إنها واجهات أنشأها الحزب الشيوعي ليستقوي بها ولا تحمل من اسمها ذرّة من الحقيقة.. واجهات مثل كثير من منظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية «المتحرِّرة» «الجندر وسيداو» التي تنشط في بعض الجامعات ذات العلاقة بالسفارات الغربية ومنظمات الأمم المتحدة.
إن أكثر ما يؤلمني أن هذه التنظيمات والأحزاب التي تُحدث ضجيجاً وجَلَبَة عالية بدون أن يكون لها أدنى تأثير في الشارع السياسي هي التي تتصدّى لمعارضة النظام الحاكم فما أطول عمر النظام عندما تهدِّده وتتوعده هذه اللافتات والظواهر الصوتية الفارغة!!
أقول للإمام الصادق المهدي ما قلتُه له سابقاً إن التحالفات تُبنى على المرجعيات الفكرية وليس العكس وأن العمل السياسي ينبغي أن يقوم على قاعدة المرتكزات والثوابت والمرجعيات والبرامج ولا يجوز أن يُتيح لمن لا وزن سياسي أو حزبي له أن يُمسك بخطامه فهلاّ قاد معارضة حقيقية بدلاً من تلك التي أسلم قيادها لفاروق أبو عيسى الذي أكاد أجزم أنه من أكبر عوامل استمساك الجماهير بنظام المؤتمر الوطني!!